أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا.كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
كان محمد جالِساً كعادته في كُل صباح يتناول فطوره ويُحَضّره. أحَب في ذلك اليوم أن يتناول الفول، فوضعه في وعاء على الطاوِلة. ثم وقف أمام المغسلة متناوِلاً كيساً وضع فيه حبّات حُمّص، وجعل يطحنه بآلة الطّحن. وبالطّبع لا بُد لكوب الشّاي أن يكون له مكانه على الطّاوِلة. كان يقتني طائراً أسود شبيهاً بالغُراب، وكان هذا الطّائر يتناول الحبوب التي كان محمد يضعها له. كان يستعد لعقد الزواج من خطيبته وِصال. ولكن، حدث في ذلك اليوم ان الطّائر تناول نصف الأطعمة الموجودة على الطّاوِلة. قال محمد: أهكذا تَستَغِلّ انشغالي في تحضير الطّعام لتأكل كما تَشاء، لكن سأريك من أين تُؤكل الكَتِف. وعاد الطائر حامِلاً ورقة في فمه، وللحال تسّلمها ليجد عليها رسما لِنصف قلب، وقد رُسم بالدّم، أمّا الأمر الأغرب هو أنه بدا كأنه ينبض! انقضت عِدّة دقائق وهو يتمعّن بالرّسم، سائلاً نفسه، تُرى لماذا لم يُكْمل صاحب الورقة رسم القلب؟ كان الطّائر قد ابتعد مجدّداً. خرج محمد ليستطلِع الأمر، ولِعين الدّهشة، وجد فتاة مُلقاة على الأرض، كانت تحتضِر، والدّماء تغْمُر وجهها، لكن الدّماء الغزيرة لم تتمكّن من حجب جمال وجهها الطّاغي. وشعر بحب جارِف نحوها، وكانت تبادله نفس الشّعور. سألته هل وصلتك الورقة يا محمد؟ محمد: بالطّبع ابتسمت الفتاة. قالت: استحلِفك بالله ألّا تتركني، وأن يَدوم حُبّنا إلى الأبد. محمد: والأفكار تتصارع في عقله بكل قوّة: كلامي هو نعم، وما يزيد على ذلك فهو باطِل. الحبيبة: طوبى لإيمانك. ثم خدش يده بسكّين كان في جيبه، وأكمل رسم القلب على الورقة، ثم قال: فليكُن هذا الرّسم ميثاقا وعهداً أبديّاً بيننا. أرجو أن تُعْلميني باسمك. أجابت وهي تحتضِر: سو.. سو.. سوسن، سوسن. ثم لفظت أنفاسها الأخيرة. فبكى عليها، وأعلم رجال الأمن بالحادِث بكل جُرأة فدفنوها. ولم يجسر لِأحد أن يَتّهمه بشيء لِنزاهته الحقيقيّة. سأل نفسه وهو في حيرة عُظمى: تُرى كيف عرفت اسمي؟! وفي ذلك اليوم اضطر أن يفسخ خطوبته مع وِصال؛ وانقلبت القرية ضِدّه، وتحوّلت صداقتهم لِعداء مُبيد. مَرّت السّنوات وهذه الذّكرى محفورة في ذاكرتها، تُلازِمه بِطيفها أينما حل، وتمنحه عزاء وصبراً من ناحية، وألماً لِفراقِها من ناحية أخرى. وكان حبه لها في تأجّج مستمِر في قلبه، يزيده شوقا للقائها. كان يشعر بوجودها دائماً، كأن طيفها السّحريّ يلمس روحه. فياللألغاز والمُعميات! مَضى على هذه الحادِثة ثلاث عشرة سنة؛ ثلاث عشرة سنة من العذاب الإجتماعي الرّهيب بِحَقّه. وفي أحد الأيّام، دَق جرس منزله. سأل نفسه: تُرى من هو هذا الزّائر الليلي الثقيل. نهض ليفتح الباب. ما إن فتحه حتى دُهش لِرؤية مُنَجّمة متسربلة بِعباءة سوداء، واضِعة بُرقعاً على عينيها، وقد بدت كامرأة عجوزة. أكّدت له بأنّها ستقرأ طالعه شرط أن يضع كُحْلاً على عينيه. شَعر بِتَدّد وخشية فابتعد عنها تلقائيّاً. قالت: هيا لا تخف، مُجَرّد ثوانٍ. لكنه ابتعد محاولاً أن يصرفها. العرّافة بِصوتها الرّخيم الجميل: تشجّع، فالرّجال عادة يتحَلّون بالشّجاعة، هيا، أغمِض عينيك. عدل عن فِكرة صرفها، وتَقَدّم نحوها، وللحال وبِطرفة عين، وفي لحظة إغماضه لِعينيه، وبيد الخبيرة، مَرّرت عودا الحِنّة على أجفانه. وللحال، تِكَشّفت أمام ناظريه رؤيا رَهيبة، شاهد فتاته تسير هائمة في الشّوارِع كالشّريدة ، ثم رأى قُطّاع طُرُق، تجّار، قد تاجروا بِها مرغمين إيّاها على الزواج، فباعها واحد للآخر، وكانت تقاومهم بإيمان المؤمن التّقي الورِع. وقد أرغمها أحدهم على إجهاض جنينها. لقد اضطهدوها بِشِدّة. وحدث أن تقامر رَجُلان عليها متراهنَيْن على الزّواج منها. وعند فوز أحدهما، قرر الخاسِر الإنتقام منه بقتلها. ثم رآها ملقاة على الأرض وهي تنظر إليه، أثناء جلوسه مع الطّائر. لم يستطع يزيد متابعة الأمر لِشدّة تأثره من الحُزن. وللحال سمع صوتاً رخيماً يقول له: أتريد أن تعرِف أين هي؟ وللحال تلاشت الرّؤيا وشاهد العرّافة وهي ترفع البرقع بِصعوبة، وعينيها ملأى بالدّموع. فتعانقا عِناقاً حارّاً، تمازجت فيه أرواحهما، كما كانت معاً في السّابِق. بَدت أمامه ملاكاً نوريّاً. وفجأة لاح نور فردوسيّ نابِض خاطِفاً إياهما لِعليائه، أما رماده فَدُفِن إلى الأبد في أعماق أعدائهم الذين تواروا إلى الأبد في غياهب المجهول.